تعتبر المسيحية اليوم أكبر ديانة في العالم، حيث أن ربع سكان العالم على الأقل يدينون بها. و بدأت المسيحية كطائفة يهودية صغيرة خلال حياة المسيح، لكنها تمكنت في أربعة قرون فقط من أن تصبح الديانة المهيمنة على معظم عالم البحر المتوسط آنذاك. كيف تمكنت المسيحية من القيام بهذا العمل الجبار؟
توحد الرومان و انتشار المسيحية
خلال القرون الأولى للمسيحية، كان الرومان ينظرون إلى هذا التيار الديني الجديد على أنه تهديد، و كان المسيحيون مضطهدين في بعض الفترات من الحكم الروماني (سوف يتم مناقشة هذا بالتفصيل لاحقا). لكن انتشار المسيحية لم يكن ممكنا إلا عبر الاستقرار و الوحدة التي أنجزها الرومان في البحر المتوسط. حيث تمكن الرومان من توحيد جميع المتوسط و جعلوه منطقة يعمها نوع من السلام و الازدهار التجاري.
و كان التواصل بين مختلف الشعوب المتوسطية يتم عبر لغتين رئيسيتين آنذاك: اللاتينية في غرب المتوسط، و اليونانية في الشرق. و ساعد هذا الاستقرار و الوحدة المبشرين الأوائل مثل سان بول في التعريف بالدين الجديد. (تظهر الخريطة 1 المدن التي قام سان بول بزيارتها). و كانت المدن الكبرى و المقاطعات المتمدنة في الطرق التجارية للمتوسط أولى مراكز الديانة المسيحية.
رعاية المرضى و نشأة المسيحية
يقول رودني ستارك في كتابه ،نشأة المسيحية، أن أحد أهم الأسباب التي ساهمت في نجاح الدعوة إلى المسيحية خلال فتراتها الأولى كان هو تشبث المسيحيين بتقديم الرعاية الصحية للمرضى. خلال الفترات الأخيرة للرومان، كانت هناك العديد من الأوبئة الفتاكة: وباء انطوان (165ـ180 ب.م)، وباء كپريانوس (251ـ270 ب.م)، و وباء جوستينيان (541ـ542 ب.م). و عرفت هاته الفترات انتشارا كبيرا للمسيحية. ويؤكد ستارك بأن المجتمعات المسيحية كانت لها فرص نجاة أكبر من الوباء بفضل الرعاية الصحية التي كان يوفرها بعضهم لبعض. و كان المسيحيون يهتمون أيضا بالمرضى من غير المسيحيين، مما شجع الناس على اعتناق الدين الجديد، خاصة خلال الأوقات العصيبة. و لم تكن الديانات القديمة تقدم أي تفسير للسبب الذي يؤدي إلى ظهور هاته الأمراض كما أن القدماء لم يكونوا على علم بوجود الكائنات المجهرية و كيفية انتشار عدوى الأمراض، و كانت المسيحية تلعب دور الخلاص في ذلك الوقت.
الاضطهاد الروماني للمسيحيين
خلال القرنين الأول و الثاني بعد الميلاد، كانت حالات تعرض المسيحيين للقمع منعزلة و مشتتة، و كان يقوم بها حكام محليون دون وجود أي سند قانوني صادر عن الإمبراطور. و بينما اتهم الإمبراطور الروماني المسيحيين بالتسبب في حريق روما الكبير سنة 64 بعد الميلاد و قام باضطهاد مسيحيي روما، كانت تلك العملية مقتصرة على مدينة روما فقط. (تظهر الخريطة 1 بعض الأحداث الموثقة لاضطهاد المسيحيين حتى العام 200 ب.م).
و بحلول القرنين الثالث و الرابع بعد الميلاد، بدأ المجتمع المسيحي في النمو بشكل كبير، و زادت شرته بفضل ذلك. أصبح عدد من أباطرة الرومان يضطهدون العقيدة المسيحية بشكل مباشر. و كان عهد الإمبراطور ديوكلتيانوس أكثر فترات اضطهاد المسيحيين شدة. حيث أنه في سلسلة من المراسيم بدءا بالعام 303 بعد الميلاد، قام ديوكلتيانوس بمنع المسيحيين من الالتحاق بالجيش، سجن عددا من القساوسة و الأساقفة المسيح، كما أمر بتدمير الكتب المقدسة المسيحية و أماكن العبادة، و منع المسيحيين من التجمع للعبادة. و طلب ديوكلتيانوس أن يتم اضطهاد المسيحيين دون "إراقة الدماء". لكن على الرغم من طلبه هذا، كان القضاة المحليون غالبا ما يطبقون أحكاما بالإعدام كما تسمح لهم السلطات الموكلة إليهم بذلك.و حسب التقديرات الحالية،أدى الاضطهاد في عهد ديوكلتيانوس إلى وفاة حوالي 3500 مسيحي من أصل 6 ملايين مسيحي في الإجمال. (مصدر) (تظهر الخريطة 2 بعض حالات التعذيب المعروفة التي حدثت خلال العهد الروماني أو مباشرة بعد فترة ديوكلتيانوس .)
نظرة الرومان تجاه المسيحية
لماذا كان الرومان الأولون يكرهون هذه العقيدة الجديدة؟ يعتقد الكثير أن الرومان كانوا يشعرون بالخطر تجاه عبادة المسيحيين لإله واحد، لكن يطرح جدلا بخصوص عدم تعرض اليهود للاضطهاد بنفس الدرجة؟ و من بين الأسباب التي اقترحت لمعرفة سبب نفور الإمبراطورية الرومانية من المسيحيين، هو رفض هؤلاء للاحتفالات العامة الرومانية، بالإضافة إلى تجنبهم للخدمة العامة و الخدمة العسكرية، و انتقادهم العلني للتقاليد القديمة. لكن ماذا كان الرومان يقولون عن نظام العقيدة المسيحية؟
لسو ء حظ المؤرخين، تم حرق الكتابات الرومانية التي كانت تنتقد المسيحية من طرف المسيحيين خلال القرون اللاحقة.حيث أن كتابات الفيلسوف فورفيري و الإمبراطور جوليان المرتد قد حرقت بأمر من الإمبراطور المسيحي ثيودوسيوس الثاني عام 448 بعد الميلاد. و لهذا السبب، فليس من السهل لنا أن نعرف اليوم سبب النظرة السلبية للرومان تجاه المسيحية. لكنه من الممكن تجميع أجزاء من تلك الكتابات المعادية للمسيحية، حيث أن عددا من علماء اللاهوت قد تركوا كتبا تدحض تلك الكتب و كانوا كثيرا ما يضعون بعض الاقتباسات.
كانت للرومان نظرة جد محافظة تجاه الدين. و كانوا يكنون احتراما كبيرا لأجدادهم و الذين يعتقد بأنهم كانوا في مرتبة الآلهة، كما أنهم كانوا يحترمون تقاليد و ديانات مختلف الشعوب التي كانت خاضعة لإمبراطوريتهم. و كانت الحركات الدينية الجديدة تعتبر نوعا من "الخرافات"، و كانت المسيحية بشكل خاص تعتبر ارتدادا عن اليهودية. و هكذا يحكي الفيلسوف سيلسيوس "عندما قام الله بإرسال المسيح، هل نسي الأوامر التي أرسلها من قبل إلى موسى؟ أم أنه تراجع عن القوانين الصادرة عنه و غير (مصدر) رأيه؟" لكن كره الرومان لهذا الدين الجديد امتزج بشعور باحتقار المسيحيين لهم، عند قولهم بتلقيهم وحيا خاصا غير معروف لدى الآخرين. و حسب هذه الرؤية، فإن الله لم يعر أسلاف الرومان أي اعتبار. و هكذا كتب الإمبراطور الروماني جوليان المرتد: "لماذا يهتم الله فقط بأرض يهوذا؟ إذا كان حقا إلها لنا كلنا، فلماذا يهملنا نحن؟" (مصدر)
قيام الإمبراطورية المسيحية
بدأ اضطهاد المسيحيين في الخمود بعد حكم ديوكلتيانوس. لم يعد المسيحيون مختبئين و أصبح لهم تأثير من جديد. و كان الإمبراطور الروماني قسطنطين الأول، (حكم من 306 إلى 337 ب.م)، أول إمبراطور روماني يتحول إلى المسيحية. لكنه لم يكن أنول حاكم يعتنق المسيحية، حيث أن ملك أرمينيا تيريداتس الثالث كان قد تحل إلى المسيحية عام 301 بعد الميلاد، و كان قد اضطهد المسيحيين بكل شراسة في بداية عهد حكمه، ثم اضطهد الغير مسيحيين بعد اعتناقه المسيحية. و على العكس من ذلك، كان قسطنطين الأول بالمقارنة متسامحا مع غير المسيحيين، على الرغم من أنه عمل بدون كلل على نشر الدين الجديد عبر الإمبراطورية. قام بسن قوانين تضمن للمسيحيين حرية اعتقادهم و أمر بإعادة أملاك الكنائس التي تمت مصادرتها أيام الاضطهاد. و لقد أثنى عليه المؤرخ المسيحي سوزومين لقيامه بوضع مسيحيين في معظم المراكز الحكومية الرئيسية.
خلال عهد قسطنطين، كان المسيحيون لا يشكلون سوى خمس ساكنة الجزء الغربي من الإمبراطورية، لكنهم كانوا يمثلون نصف ساكنة المقاطعات الشرقية. (مصدر) و قد يكون هذا أحد الأسباب التي دفعت بقسطنطين إلى تغيير عاصمة الإمبراطورية الرومانية من روما إلى مدينة جديدة قام هو بإنشائها تسمى "القسطنطينية" (انظر الخريطة 3). و في عاصمته الجديدة أصبح بإمكانه أن يحيط نفسه بساكنة مسيحية وفية، كما أن الدفاع عن المدينة كان سهلا، حيث أنها محاطة بالبحر من ثلاث جهات و بالجبال من الجهة الرابعة.لكن الوثنيين كانوا لا يزالون أكثر عددا و تأثيرا في الإمبراطورية الرومانية كي يتمكن قسطنطين من تدمير معابدهم على نطاق واسع، لكنه رغم ذلك بدأ في هدم عدد من المعابد الوثنية في الأجزاء الشرقية من الإمبراطورية و التي كانت تعتبر مختلفة أو منافسة للمعتقدات المسيحية (أي تلك الخاصة بأفروديت، آلهة الحب لدى اليونان، و أسكليبيوس إله الطب لدى اليونان)، و تم تدمير معظم مجمع المعبد و أوراكل أبولو في ديديم من طرف قسطنطين، لكن ذلك كان على ما يبدو بدافع الانتقام، حيث أن الكهنة هناك كانوا يشجعون على اضطهاد المسيحيين في عهد ديوكلتيانوس. (مصدر) يكفي النظر إلى الخريطة 3 لملاحظة أنه خلال هاته الفترة لم يتم تدمير سوى عدد صغير من المعابد الوثنية وكانت كلها تقع في الجانب الشرقي من الإمبراطورية، و التي كانت قاعدة المسيحية.
بعد عهد قسطنطين الأول، كان معظم الأباطرة الرومان اللاحقون مسيحيين، باستثناء جوليان المرتد، و الذي تمت الإشارة إلى كتاباته ضد المسيحية سابقا. حاول جوليان المرتد لفترة قصيرة أن يعيد الديانات الوثنية التقليدية للإمبراطورية، لكن فترة حكمه لم تتجاوز سنتين. وسيحدد مصير الوثنيين أخيرا عند حكم ثيودوسيوس الأول ( حكم من 379 إلى 392) و الذي حرّم كل الاحتفالات الدينية الوثنية كما أمر بهدم جميع معابدها عبر كل الإمبراطورية. قام ثيودوسيوس أيضا بمنع الألعاب الأولمبية و التي كانت تعتبر آنذاك احتفالا غير مسيحي. و تظهر الخريطة 4 المعابد الوثنية التي تم تدميرها خلال و بعد حكم ثيودوسيوس الأول.
و مع أن الوثنية قد تم تحريمها بشكل قانوني، فلم يكن من السهل القضاء على أكثر من ألف عام من التقاليد الدينية الوثنية، لذا استمر أباطرة الرومان في إصدار قوانين جديدة لمنع الوثنية طيلة القرن الخامس للميلاد. و في عام 528 بعد الميلاد، أمر الإمبراطور جوستينيان بإغلاق المدرسة الأفلاطونية الجديدة للفلسفة في أثينا لأنها كانت تعتبر تهديدا للمعتقدات المسيحية. و يعتبر العديد من المؤرخين هذا الحدث نقطة نهاية العالم القديم.