مصر القديمة
كان نهر النيل العظيم في مصر مشعل الحياة، الحضارة و الازدهار، كونه يشكل الإمداد المائي الوفير وسط أكبر صحاري العالم. و حول وادي النيل نشأت إحدى أقدم الحضارات، و التي كانت تعتبر أكثر الحضارات تقدما على الأرض لمدة آلاف السنين. كل سنة، و بشكل منتظم، يفيض النيل على جانبيه، مما يشكل عملية سقي طبيعية للأراضي المجاورة له، و يسمح بإنتاج كمية زائدة من المحصول الكافية لتطور نخبة غير منتجة للطعام، بالإضافة إلى المحاربين، الفنانين، و الموظفين الذين يحتاج إليهم تطور الحضارة.
بالابتعاد عن المنطقة الخصبة قرب وادي النيل، معظم باقي أراضي مصر تعمها الصحراء، مما يعني أن المغادرة إلى مكان آخر أمر شبه مستحيل بالنسبة للناس الذين استقروا هناك. و لقد ساعد هذا العامل زيادة قوة الدولة المركزية حيث يصبح من السهل حينئذ تحصيل الضرائب، تعبئة الجيش أو تطبيق القوانين. كما أن الين شجع أيضا على التجارة و التواصل بين المستوطنات عبر تسهيل تنقل الأشخاص و البضائع باستخدام النهر. و لهذا فإنه ليس من المفاجئ أن تكون مصر الأرض التي سوف تشهد قيام إحدى أقدم المجتمعات.
أول توحيد لبلاد مصر
أول توحيد مؤرخ لمصر في شكل مملكة واحدة يوجد على لوحة نارمر، التي تعود إلى حوالي 3100 عام قبل الميلاد. وتبين اللوحة الملك نارمر يتغلب على أعدائه و يلبس كلا من تاجي الحكم التقليديين لمصر العليا و مصر السفلى. (انظر الخريطة 1) و بدءا من هنا، كان كل الفراعنة (الملوك) الذين حكموا منطقة وادي النيل خلال العصر الذهبي لمصر (المملكة القديمة، المملكة الوسطى، و المملكة الجديدة) يلقبون بحكام 'المملكتين'. و على الرغم من ذلك، كانت مصر كلما مرت من أوقات عصيبة، أو أقل ازدهارا (و التي تعرف بالفترات "البينية")، كلما كان البلد يقسم إلى مملكتين مستقلتين أو أكثر.
المملكة القديمة: عصر الأهرامات
كانت المملكة القديمة أولى فترات "العصر الذهبي" لمصر. حيث استمرت من 2686 إلى 2181 قبل الميلاد و كانت الحقبة التي بني فيها أكبر عدد من الأهرامات. و تم بناء غالب الأهرامات في مصر السفلية، بقرب عاصمة المملكة القديمة منف (أو ممفيس). (انظر الخريطة 2) و لقد كانت أيضا الفترة التي تطور فيها الفن، الثقافة، الدين و المجتمع ليكون صيغته المميزة التي سوف تدوم كما هي طيلة تلك الفترة.
و لاكتساب شرعية الحكم، كان حكام مصر يدعون بأنهم آلهة فوق الأرض. و لهذا فإن الفرعون كان يعتبر ابن إله الشمس را، و يمثل التجسيد الحي لحورس (إله السماء)، و سوف يتحول إلى اوزيريس (إله ما بعد الحياة)، بعد مماته. و على الرغم من أن الأمر سخيفا بالنسبة لنا في الوقت الحالي، إلا أن العديد من الأدلة تظهر أن قدماء المصريين كانوا يصدقون ذلك. حيث كان إذا جاء أحد الحكام لبسط سيطرته على مصر ولم يعلن أنه من الآلهة المصرية، كان سيواجه حتما كرها شديدا من طرف السكان المحليين. كان وجود حاكم إلهي من العوامل المؤدية إلى الاستقرار، و هذا ما سيتم الاحتذاء به و جعله مناسبا خارج مصر،مرارا و تكرارا عبر التاريخ. انتهت المملكة المصرية القديمة خلال الفترة البينية الأولى، عندما تم تقسيم مصر من جديد إلى مصر العليا و السفلى .(انظر الخريطة 3).
رسم لنوبي (يسار)، آشوري (وسط)، و مصري (يمين) من قبر الفرعون سيتي الأول.
المملكة الوسطى
تمت إعادة توحيد مصر على يد الفرعون منتوحوتپ الثاني. و كانت تلك بداية فترة جديدة من الوحدة و الازدهار عرفت بالمملكة الوسطى (
انظر الخريطة 4). و من بين أكثر فراعنة المملكة الوسطى شهرة كان سنوسرت الثالث، ملك محارب قام بضم المناطق النوبية إلى مجال مصر، كما قام ببناء قناة ملاحية عبر أول شلالات النيل، مما سمح للمراكب من السفر بين مصر و بلاد نوبيا، كما أنه قام ببناء حصون دفاعية على الحدود مع نوبيا عند سمنا. (
انظر الخريطة 4) و انتهت المملكة الوسطى خلال الفترة البينية الثانية عندما تم غزو مصر السفلى من طرف الهكسوس القادمين من آسيا. (
انظر الخريطة 5)
المملكة الجديدة
تم توحيد مصر للمرة الثالثة عندما قام الملوك الأصليون لمدينة طيبة باسترداد مصر السفلى من سيطرة الهكسوس. و كانت تلك بداية عهد المملكة الجديدة لمصر و التي يعتقد أنها كانت أكثر الفترات ازدهارا في التاريخ المصري. خلال هاته الفترة، كان بناء الأهرامات العملاقة يعد عملا من الماضي، يدل ذلك كان فراعنة المملكة الجديدة يشيدون معابد باذخة، مدافن على شكل مجمعات، قصور، و تماثيل لتمجيد حكمهم. و اتسمت المملكة الجديدة أيضا بكونها الفترة التي ستسيطر فيها مصر على مناطق جديدة مكونة إمبراطورية كبيرة. ويعتبر تحوتمس الثالث (1479ـ1425 ق.م) الفرعون الذي عرفت مصر أكبر توسع جغرافي في عهده. حيث قام ببسط سيطرته على طول ساحل
بلاد الشام شمالا و معظم بلاد نوبة في الجنوب. (
انظر الخريطة 6)
رسم للملكة نفرتيتي، زوجة أخناتون مع 2 من بنات أخناتون.
قد يكون
أخناتون أكثر فراعنة المملكة الجديدة شهرة. حيث قام بالتخلي عن الديانة المصرية القديمة و دعا إلى عبادة إله واحد يسمى
آتون (قرص الشمس). في قصيدته "
ترنيمة عظيمة إلى آتون"، يمجد اخناتون آتون كالإله الواحد، و واهب الحياة. و يقول بعض العلماء أن المزمور 104 من الكتاب المقدس العبري تأثر بهذه الترنيمة. قام أخناتون ببناء عاصمة جديدة تسمى "أختاتون" و خصصها للدين الجديد. و لقد قام أيضا بإدخال أساليب فنية جديدة، و التي يظهر فيها الفرعون و عائلته أوصافا مبالغا فيها من قبيل الرؤوس و الأصابع الزائدة الطول، بالإضافة إلى البطون المنتفخة، مما جعل مظهرهم جد غريب. و لقد كان الهدف من ذلك هو إبداء العائلة الملكية مختلفة عن عامة الناس قدر المستطاع. قام أخناتون بمنح زوجته الشهيرة نفرتيتي مرتبة حاكم ثان، و كان أخناتون و نفرتيتي يرسمان دائما جنبا إلى جنب، مع أيديهما المتشابكة و التي تتجه نحو أشعة الحياة التي يمنحها إله الشمس الجديد: آتون. لم تبق ديانة أخناتون طويلا بعد مماته. حيث قام أخلافه بإعادة الديانات القديمة متعددة الآلهة، و تخلوا عن عاصمته الجديدة، بل حاولوا أيضا أن يدمروا جميع الرسومات التي تشير إليه و يمحوا وجوده كفرعون سابق لمصر.لكن ورغم ذلك،
يعتقد الكثير من الدارسين أن ديانة أخناتون التوحيدية الجديدة قد تكون من العوامل التي أوحت إلى تطور ديانات توحيدية لاحقة أخرى، مثل
اليهودية.
بينما ركز أخناتون جهوده لحل المشاكل الداخلية، و الدعوة إلى ديانته الجديدة، قام الحثيون تدريجيا بتكثيف نفوذهم و احتلال جزء كبير من البلاد السورية. و أخد الفرعون رمسيس الثاني (1279ـ1213 ق.م) على عاتقه مسألة استرجاع تلك الأراضي، و إعادة النفوذ الجغرافي للملكة الجديدة للوضع الذي كانت عليه إبان حكم تحوتمس الثالث.
قام رمسيس الثاني بغزو سوريا و واجه الجيش الحثي في معركة قادش. لم ينتصر أي من الطرفين، لكن رمسيس، و بعد عودته إلى مصر، أمر بزخرفة المعالم بالنقوش و الكتابات التي تصف المعركة بأنها نصر عظيم.
الفترة البينية الثالثة
خلال الفترة التي عرفت
بانهيار العصر البرونزي، كانت مملكة مصر الجديدة عرضة للغزوات، سواء من طرف '
شعوب البحر ' أو من الليبيين من جهة الصحراء الغربية. كانت تلك بوادر أفول المملكة الجديدة. بحلول العام 1000 قبل الميلاد، كانت مصر قد انقسمت من جديد. و عرفت الفترة ما بين 1069 و 653 قبل الميلاد بالفترة البينية الثالثة، حيث تنافست عدة سلالات على حكم مصر، بما في ذلك أولئك الذين ينحدرون من أصول أجنبية، مثل ملوك المشوش الذين قدموا من ليبيا و حكموا مناطق من مصر السفلى، و النوبيين الذين استعادوا استقلالهم و قاموا بتأسيس مملكة كوش.(
انظر الخريطة 7). خلال القرن الثامن قبل الميلاد، استغل ملك كوش بعنخي (أو بيا) الاضطرابات التي كانت تعيشها مصر لاجتياح هاته الأخيرة، و بعد 20 من الحملات العسكرية استطاع السيطرة على معظم بلاد مصر، و قام بإنشاء الإمبراطورية الكوشية.(
انظر الخريطة 8) وتعرف الإمبراطورية الكوشية أيضا باسم الأسرة الـ 25، و لأول مرة حكمت مصر من طرف سلالة فراعنة من نوبة، ومن العاصمة نبتة بنوبة.(
انظر الخريطة 8)
مصر تحت الحكم الأجنبي
عندما تم غزو البلد من طرف
الآشوريين في القرن السابع قبل الميلاد، طرد الفراعنة الكوشيون من مصر. و تعرضت مصر بعد ذلك إلى عدة حملات عسكرية متتالية، حيث تبع
الآشوريون كل من
الفرس،
اليونان المقدونيون،
الرومان، ثم العرب. لكن خلال أغلب فترات الاحتلال الأجنبي هاته، ظلت الثقافة و الديانة المصرية ثابتة لم تتغير، حيث استمر المصريون في عبادة آلهتهم المحلية و استخدام لغتهم الخاصة. كانت نهاية الديانة المصرية بعد
بزيغ الديانة المسيحية خلال الفترة الرومانية. حيث قام كل من الأباطرة الرومان المسيحيين بسن مراسيم تجعل من الديانة المصرية أمرا خارجا عن القانون، كما
قاموا بإغلاق المعابد المصرية الأصلية بالقوة. و كان آخر معبد مصري يتم إغلاقه هو معبد الإلهة إيزيس بفيلة، و الذي أغلق بأمر من الإمبراطور جستنيان في القرن السادس بعد الميلاد، و بالتالي أعلن نهاية أكثر من ثلاث ألفيات و نصف من التقاليد الدينية المصرية.