الفتوحات الإسلامية في إسبانيا
كانت شبه الجزيرة الايبيرية من أغنى أجزاء الإمبراطورية الرومانية المهزومة، حتى تم اجتياحها من قبل القبائل الجرمانية في القرن الخامس الميلادي. كان القوط الغربيون هم القبيلة الجرمانية التي سيطرت على إيبيريا، إلا أن حكمهم لم يطل. ففي عام 711 م، بدأ العرب غزو شبه الجزيرة الايبيرية بقيادة طارق بن زياد. حيث نزل طارق بن زياد بجيوشه في جبرلتار (وهي في الحقيقة تهجئة خاطئة لـ"صخرة جبل طارق"، بالعربية: جبل طارق) و قام في النهاية بفتح كامل أراضي شبه الجزيرة خلال حملة امتدت 7 سنوات. أطلق العرب اسم "الأندلس" على ايبيريا، وهي أصل التسمية الحديثة لمقاطعة أندلسيا الإسبانية. وأصبحت الأندلس بذلك الجزء الواقع في أقصى غرب الإمبراطورية الإسلامية الضخمة، والتي حكمها الخلفاء الأمويين من دمشق في سوريا.
"العصر الذهبي" للإسلام
في عام 750 م، تمت الإطاحة بالسلالة الأموية الحاكمة من قبل العباسيين في إنقلاب دموي. حيث قام العباسيون بدعوة 80 من أبرز الحكام الأمويين للعشاء في دمشق، وقاموا بضربهم حتى الموت قبل أن يتم تقديم الطبق الأول. وكان عبدالرحمن الأول، ذو 19 عاماً، حفيد الخليفة الأموي العاشر، الوحيد الذي تمكن من الهرب من بينهم، بعد أن وثب من النافذة، وسبح عبر نهر الفرات، وفرَّ متنكراً. قضى عبدالرحمن الأول الخمس سنوات التالية هارباً من العباسيين. و وصل عام 755 م إلى إسبانيا، وتمكن من الحصول على دعم سياسي كافي لتأسيس خلافة أمية جديدة في إسبانيا، لتكون بذلك منافسة للخلافة العباسية في الشرق الأوسط (أنظر الخريطة 756 - 1 م) قام بعدها عبدالرحمن الأول بتأسيس عاصمته في قرطبة (كوردوبا الحديثة). والتي أصبحت أكبر وأغنى مدن غرب أوروبا، منافسة بذلك القسطنطينية و بغداد في الشرق. وفقاً لبعض أقوال المؤرخين، لم تكن الخلافة الأموية في قرطبة حضارة غنية فقط، بل كانت متنورة للغاية بالمقارنة مع معاصراتها في أوروبا المسيحية. تشهد م. ر. مينوكال في كتابها، "زينة العالم"، أنه حين كان الإسلام الديانة الحاكمة في إسبانيا الإسلامية، فإن المسيحية واليهودية كانتا تحظيان بالتسامح. كما أن العلماء، والأطباء و مهندسي العمارة من المسيحيين واليهود ازدهروا جميعاً تحت حكم الأمويين. ولم يكن الأمويون متسامحين تجاه الديانات الأخرى فحسب، بل كان موقفهم متنوراً نسبياً تجاه النساء، واللاتي كان يسمح لهن بتعلم القراءة والخط العربي ليصبحن كاتبات في المحكمة. إلا أنه كان هناك حد للتسامح الديني حتى خلال فترة العصر الذهبي. حيث كانت عقوبة التجديف هي الموت، وعقوبة ترك الإسلام هي الإعدام. (المصدر)
وصلت ذروة الحكم الأموي في إسبانيا خلال القرن العاشر الميلادي، وبالتحديد خلال حكم عبدالرحمن الثالث (أنظر الخريطة 940 - 2 م) عُرف عبدالرحمن الثالث بامتلاكه شعراً فاتح اللون وعينين زرقاوين. كان ذلك نتيجة العادة التي اتبعها الخلفاء الأمويون لفترة طويلة، وهي اتخاذ زوجات من الباسك والفرنجة. وكان عبدالرحمن الثالث راعياً للفنون، حيث كان فن العمارة الأبرز من بينها. وقد أمر بإنجاز عدة مشاريع بناء ضخمة، منها توسيع مكتبة قرطبة، وبناء مجمع قصور بديع على أطراف مدينة قرطبة، والتي تعرف بمدينة الزهراء، التي أهداها إلى زوجته المفضلة. وقد وصف الرحالة المسيحيون هذا البناء بأنه سلسة مدهشة من القصور المليئة بالكنوز التي لم تُرى من قبل. (المصدر)
الاسترداد المسيحي
في القرن الحادي عشر الميلادي، بدأ حكم الخلفاء الأمويين يتزعزع، حيث تفككت الخلافة إلى سلسلة من الممالك الإسلامية المنفصلة تُعرف "بالطوائف" (أنظر الخريطة 1036 - 3 م) وخلال نفس الفترة، قام المسيحيون، الذين استطاعوا التمسك بإقليم لهم في أقصى شمال شبه الجزيرة، بتجميع قواهم الثقافية والعسكرية: استعاد المسيحيون الاستيلاء على معظم مناطق إقليم الكاستيل المركزية (وقعت توليدو، مدريد، وغوادالاخارا في يد المسيحين في أواخر 1080 م). وجاء بناء الكاتدرائية الرومانسكية في سانتياجو دي كومبوستيلا في عام 1075 م ليعلن بداية مشاريع بناء مسيحية واسعة النطاق، لمنافسة القصور والمساجد العظيمة في إسبانيا الإسلامية. إلا أن حروب الاسترداد المسيحي أو "الريكونكيستا"، لم تنجح في خلق زخم حقيقي حتى القرن الثالث عشر الميلادي. وكان السبب الرئيسي وراء ذلك هو التنافس بين مختلف الممالك المسيحية. كان أشهر الأبطال المسيحيين في ما يعرف "بالريكونكيستا"، إل سيد، قد قضى الكثير من مسيرته في القتال مع إحدى الممالك المسيحية ضد الأخرى، حتى أنه قضى بعض الوقت في العمل تحت إمرة الحكام المسلمين، والقتال ضد المسيحيين.
يُظهر هذا الرسم الذي يعود إلى إسبانيا الإسلامية في القرن الثالث عشر مجموعة من الرجال والنساء يشربون الخمرة ويستمعون إلى الموسيقى. الرجال غير ملتحين والنساء لا يلبسن الحجاب. كانت كل هذه الأنشطة تعتبر "غير إسلامية" في نظر الموحدين الأصوليين الذين جاءوا من شمال أفريقيا لفرض أحكام الشريعة الإسلامية التقليدية في شبه الجزيرة.
إلا أن برابرة إسبانيا شعروا بالتهديد من عودة ظهور الديانة المسيحية. وقد أرجع الكثير سبب الخسائر الإسلامية إلى القيادة الفاسدة والتساهل في مراقبة تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية. قام الحكام المسلمون بدعوة المرابطين إلى إسبانيا لمساعدتهم على الدفاع عن أراضيهم ضد المسيحيين. كان المرابطون قبيلة محاربة من شمال أفريقيا. و كانوا يؤمنون بتفسير متشدد للقرآن الكريم. كانوا يؤمنون بأن الحكام المسلمين في إسبانيا ليسوا مسلمين حقيقيين وأنهم قد بدأوا بتبني أساليب حياة مسيحية. وبفضل الدعم الشعبي الكبير، تمكن المرابطون من سلب الحكم من يد الحكام المسلمين في إسبانيا، وقد جاءوا في الأصل لمساعدتهم. إلا أن سيطرة المرابطين على الحكم لم تطل، حيث بدأت حركة إسلامية أكثر تشدداً بالسيطرة على شمال أفريقيا: الموحدون، وهي حركة محافظة لدرجة يبدوا فيها المرابطون أصحاب فكر حر معتدل بالمقارنة معها. وقد قام أحد مؤسسي حركة الموحدين بمهاجمة شقيقة أمير المرابطين لعدم ارتدائها النقاب في العلن. تمكن الموحدون من استغلال الحماسة الدينية لدى سكان شمال أفريقيا، والسيطرة على كامل إمبراطورية المرابطين. حين وصل الموحدون إلى إسبانيا، قاموا بحظر إنتاج الخمر، وإجبار الكثير من الأقليات اليهودية والمسيحية على الدخول إلى الإسلام. وقد هرب معظمهم إلى الممالك المسيحية في الشمال، حيث كانوا في ذلك الوقت أكثر تسامحاً مع الأقليات الدينية (المصدر).
رحَّب معظم المسلمون في إسبانيا بالخطاب الأصولي المتشدد للموحدين. كان ابن مردنيش، المعروف بـ "
El Rey Lobo " (الملك الذئب) عند المسيحيين، هو من قام بقيادة حركة المقاومة ضد الموحدين من بين مسلمي إسبانيا. ونتيجة لتحالفه مع المملكة المسيحية في الكاستيل، مني بعدة نجاحات عسكرية ضد الموحدين، واستطاع خلق طائفة إسلامية مستقلة، وكانت عاصمتها في مورسيا. (
أنظر الخريطة 1162 - 4 م) حين توفي ابن مردنيش، استسلم أبناؤه للموحدين، فسيطروا بذلك على كامل أراضي إسبانيا الإسلامية (
أنظر الخريطة 1212 - 5 م). إلا أن الممالك المسيحية كانت قد توحدت في ذلك الوقت في رغبتها بطرد المسلمين خارج إسبانيا نهائياً. خاصة وأن الموحدون قد أثبتوا أنهم لا يشكّلون منافساً لهم على المدى البعيد. أما نقطة التحول في فترة الريكونكيستا، فكانت معركة
لاس نافاس دي تولوسا (
1212 م)، والتي شهدت جيشاً جمع بين الكاستيل، و أراغون و نافارا، بالإضافة إلى المتطوعين من ليون وفرنسا، وتمكنوا فيها من هزيمة الموحدين. لتسقط بعد ذلك بقليل، كل من فالنسيا، و قرطبة، و أشبيليه و جزر البليار في يد المسيحيين. وقد نجت مملكة إسلامية صغيرة تحكمها سلالة إسلامية جديدة هم
النصريون. وكانت تقع في ضواحي مدينة غرناطة. (
أنظر الخريطة 1265 - 6 م)
1492 - بدايات عصر ذهبي جديد في إسبانيا
في هذه الأثناء، بدأت الممالك المسيحية المنفصلة بالتوحد إلى ما سيشكل في النهاية مملكة إسبانيا. فتوحدت كل من كاستيل و ليون في 1230
م، وأضيفت إليهم بعدها مملكة أراغون من قبل اتحاد السلالات الحاكمة بين فيردناند الثاني ملك أراغون و إيزابيلا الأولى ملكة كاستيل في عام 1474
م. ونجحت قوى فيردناند وإيزابيلا أخيراً في احتلال آخر مملكة إسلامية في غرناطة في عام 1492
، منهية بذلك 700
عاماً من الحكم الإسلامي لإسبانيا. (أنظر الخريطة 1492 - 7 م) وفي نفس العام قام فيردناند وإيزابيلا بتوقيع مرسوم الحمراء، الذي يلزم كل اليهود باعتناق المسيحية أو مواجهة الطرد من إسبانيا. في السنوات اللاحقة، ستواجه الأقليات المسلمة نفس المصير. في وقت لاحق من نفس العام (1492) ، كلّف فيردناند وإيزابيلا كريستوفر كولومبوس بالإبحار عبر المحيط الأطلنطي. ومن الآن فصاعداً يستمر المسيحيون في توسعاتهم وانتصاراتهم، ولكن هذه المرة ستكون وجهتهم نحو الغرب، في العالم الجديد.